الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب صِلَةِ الرَّحِمِ وَتَحْرِيمِ قَطِيعَتِهَا: 4634- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَامَتْ الرَّحِم، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَام الْعَائِذ مِنْ الْقَطِيعَة، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِل مَنْ وَصَلَك، وَأَقْطَع مَنْ قَطَعَك؟ قَالَتْ: بَلَى.قَالَ: فَذَلِكَ لَك» وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «الرَّحِم مُعَلَّقَة بِالْعَرْشِ تَقُول: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّه، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّه» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الرَّحِم الَّتِي تُوصَل وَتُقْطَع وَتُبَرّ إِنَّمَا هِيَ مَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي، لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ قَرَابَة وَنَسَب تَجْمَعهُ رَحِم وَالِدَة، وَيَتَّصِل بَعْضه بِبَعْضٍ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الِاتِّصَال رَحِمًا. وَالْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْقِيَام وَلَا الْكَلَام، فَيَكُون ذِكْر قِيَامهَا هُنَا وَتَعَلُّقهَا ضَرْب مَثَل، وَحُسْن اِسْتِعَارَة عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي اِسْتِعْمَال ذَلِكَ، وَالْمُرَاد تَعْظِيم شَأْنهَا، وَفَضِيلَة وَاصِلِيهَا، وَعَظِيم إِثْم قَاطِعِيهَا بِعُقُوقِهِمْ، لِهَذَا سُمِّيَ الْعُقُوق قَطْعًا، وَالْعَقّ الشَّقّ كَأَنَّهُ قَطَعَ ذَلِكَ السَّبَب الْمُتَّصِل.قَالَ: وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد قَامَ مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَة وَتَعَلَّقَ بِالْعَرْشِ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانهَا بِهَذَا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَالْعَائِذ الْمُسْتَعِيذ، وَهُوَ الْمُعْتَصِم بِالشَّيْءِ الْمُلْتَجِئ إِلَيْهِ الْمُسْتَجِير بِهِ.قَالَ الْعُلَمَاء: وَحَقِيقَة الصِّلَة الْعَطْف وَالرَّحْمَة، فَصِلَة اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى عِبَارَة عَنْ لُطْفه بِهِمْ، وَرَحْمَته إِيَّاهُمْ، وَعَطْفه بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمه، أَوْ صِلَتهمْ بِأَهْلِ مَلَكُوته الْأَعْلَى، وَشَرْح صُدُورهمْ لِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَته.قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَا خِلَاف أَنَّ صِلَة الرَّحِم وَاجِبَة فِي الْجُمْلَة، وَقَطِيعَتهَا مَعْصِيَة كَبِيرَة.قَالَ: وَالْأَحَادِيث فِي الْبَاب تَشْهَد لِهَذَا، وَلَكِنَّ الصِّلَة دَرَجَات بَعْضهَا أَرْفَع مِنْ بَعْض، وَأَدْنَاهَا تَرْك الْمُهَاجَرَة، وَصِلَتهَا بِالْكَلَامِ وَلَوْ بِالسَّلَامِ، وَيَخْتَلِف ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَة وَالْحَاجَة، فَمِنْهَا وَاجِب، وَمِنْهَا مُسْتَحَبّ، وَلَوْ وَصَلَ بَعْض الصِّلَة لَمْ يَصِل غَايَتهَا لَا يُسَمَّى قَاطِعًا، وَلَوْ قَصَّرَ عَمَّا يَقْدِر عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ لَا يُسَمَّى وَاصِلًا.قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الرَّحِم الَّتِي تَجِب صِلَتهَا، فَقِيلَ: هُوَ كُلّ رَحِم مَحْرَم بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدهمَا ذَكَرًا وَالْآخَر أُنْثَى حَرُمَتْ مُنَاكَحَتهمَا. فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُل أَوْلَاد الْأَعْمَام وَلَا أَوْلَاد الْأَخْوَال، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِل بِتَحْرِيمِ الْجَمْع بَيْن الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا أَوْ خَالَتهَا فِي النِّكَاح وَنَحْوه، وَجَوَاز ذَلِكَ فِي بَنَات الْأَعْمَام وَالْأَخْوَال.وَقِيلَ: هُوَ عَامّ فِي كُلّ رَحِم مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام فِي الْمِيرَاث، يَسْتَوِي الْمَحْرَم وَغَيْره، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَدْنَاك أَدْنَاك» هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَهَذَا الْقَوْل الثَّانِي هُوَ الصَّوَاب، وَمِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ الْحَدِيث السَّابِق فِي أَهْل مِصْر: «فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّة وَرَحِمًا» وَحَدِيث: «إِنَّ أَبَرّ الْبِرّ أَنْ يَصِل أَهْل وُدّ أَبِيهِ» مَعَ أَنَّهُ لَا مَحْرَمِيَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.4635- سبق شرحه بالباب.4636- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُل الْجَنَّة قَاطِع» هَذَا الْحَدِيث يُتَأَوَّل تَأْوِيلَيْنِ سَبَقَا فِي نَظَائِره فِي كِتَاب الْإِيمَان: أَحَدهمَا حَمْله عَلَى مَنْ يَسْتَحِلّ الْقَطِيعَة بِلَا سَبَب وَلَا شُبْهَة مَعَ عِلْمه بِتَحْرِيمِهَا، فَهَذَا كَافِر يُخَلَّد فِي النَّار، وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة أَبَدًا. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ وَلَا يَدْخُلهَا فِي أَوَّل الْأَمْر مَعَ السَّابِقِينَ، بَلْ يُعَاقَب بِتَأَخُّرِهِ الْقَدْر الَّذِي يُرِيدهُ اللَّه تَعَالَى.4637- سبق شرحه بالباب.4638- سبق شرحه بالباب.4639- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَط لَهُ فِي رِزْقه وَيُنْسَأ لَهُ فِي أَثَره فَلْيَصِلْ رَحِمه» (يُنْسَأ) مَهْمُوز أَيْ يُؤَخَّر. و(الْأَثَر) الْأَجَل، لِأَنَّهُ تَابِع لِلْحَيَاةِ فِي أَثَرهَا. و(بَسْط الرِّزْق) تَوْسِيعه وَكَثْرَته، وَقِيلَ: الْبَرَكَة فيه.وَأَمَّا التَّأْخِير فِي الْأَجَل فَفيه سُؤَال مَشْهُور، وَهُوَ أَنَّ الْآجَال وَالْأَرْزَاق مُقَدَّرَة لَا تَزِيد وَلَا تَنْقُص، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلهمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَأَجَابَ الْعُلَمَاء بِأَجْوِبَةٍ الصَّحِيح مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْره، وَالتَّوْفِيق لِلطَّاعَاتِ، وَعِمَارَة أَوْقَاته بِمَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة، وَصِيَانَتهَا عَنْ الضَّيَاع فِي غَيْر ذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَظْهَر لِلْمَلَائِكَةِ وَفِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَنَحْو ذَلِكَ، فَيَظْهَر لَهُمْ فِي اللَّوْح أَنَّ عُمْره سِتُّونَ سَنَة إِلَّا أَنْ يَصِل رَحِمه فَإِنْ وَصَلَهَا زِيدَ لَهُ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّه مَا يَشَاء وَيُثْبِت} فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْم اللَّه تَعَالَى، وَمَا سَبَقَ بِهِ قَدَره وَلَا زِيَادَة بَلْ هِيَ مُسْتَحِيلَة، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ظَهَرَ لِلْمَخْلُوقِينَ تُتَصَوَّر الزِّيَادَة، وَهُوَ مُرَاد الْحَدِيث. وَالثَّالِث أَنَّ الْمُرَاد بَقَاء ذِكْره الْجَمِيل بَعْده، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ. حَكَاهُ الْقَاضِي، وَهُوَ ضَعِيف أَوْ بَاطِل وَاَللَّه أَعْلَم.4640- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي يَصِل قَرَابَته وَيَقْطَعُونَهُ: «لَئِنْ كُنْت كَمَا قُلْت فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلّ، وَلَا يَزَال مَعَك مِنْ اللَّه تَعَالَى ظَهِير عَلَيْهِمْ مَا دُمْت عَلَى ذَلِكَ» (الْمَلّ) بِفَتْحِ الْمِيم: الرَّمَاد الْحَارّ، و(تُسِفُّهُمْ) بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر السِّين وَتَشْدِيد الْفَاء، و(الظَّهِير) الْمُعِين، وَالدَّافِع لِأَذَاهُمْ.وَقَوْله: (أَحْلُم عَنْهُمْ) بِضَمِّ اللَّام.(وَيَجْهَلُونَ) أَيْ يُسِيئُونَ، وَالْجَهْل هُنَا الْقَبِيح مِنْ الْقَوْل، وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارّ، وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارّ مِنْ الْأَلَم، وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا الْمُحْسِن، بَلْ يَنَالهُمْ الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته، وَإِدْخَالهمْ الْأَذَى عَلَيْهِ.وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِكَثْرَةِ إِحْسَانك وَقَبِيح فِعْلهمْ مِنْ الْخِزْي وَالْحَقَارَة عِنْد أَنْفُسهمْ كَمَنْ يُسَفّ الْمَلّ.وَقِيلَ: ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانك كَالْمَلِّ يُحَرِّق أَحْشَاءَهُمْ. وَاَللَّه أَعْلَم..باب النَّهْيِ عَنِ التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّدَابُرِ: 4641- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا» التَّدَابُر الْمُعَادَاة، وَقِيلَ: الْمُقَاطَعَة؛ لِأَنَّ كُلّ وَاحِد يُوَلِّي صَاحِبه دُبُره. وَالْحَسَد تَمَنِّي زَوَال النِّعْمَة، وَهُوَ حَرَام. وَمَعْنَى: «كُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا» أَيْ تَعَامَلُوا وَتَعَاشَرُوا مُعَامَلَة الْإِخْوَة وَمُعَاشَرَتهمْ فِي الْمَوَدَّة وَالرِّفْق، وَالشَّفَقَة وَالْمُلَاطَفَة، وَالتَّعَاوُن فِي الْخَيْر، وَنَحْو ذَلِكَ، مَعَ صَفَاء الْقُلُوب، وَالنَّصِيحَة بِكُلِّ حَال.قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء. وَفِي النَّهْي عَنْ التَّبَاغُض إِشَارَة إِلَى النَّهْي عَنْ الْأَهْوَاء الْمُضِلَّة الْمُوجِبَة لِلتَّبَاغُضِ.4642- قَوْله: (حَدَّثَنِيهِ عَلِيّ بْن نَصْر الْجَهْضَمِيّ حَدَّثَنَا وَهْب بْن جَرِير حَدَّثَنَا شُعْبَة) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: (عَلِيّ بْن نَصْر)، وَكَذَا نَقَلَهُ الْجَيَّانِيّ وَالْقَاضِي عِيَاض وَغَيْرهمَا مِنْ الْحُفَّاظ وَعَنْ عَامَّة النُّسَخ. وَفِي بَعْضهَا: (نَصْر بْن عَلِيّ) بِالْعَكْسِ. قَالُوا: وَهُوَ غَلَط. قَالُوا: وَالصَّوَاب (عَلِيّ بْن نَصْر) وَهُوَ أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن نَصْر بْن عَلِيّ بْن نَصْر الْجَهْضَمِيّ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ هُوَ وَأَبُوهُ نَصْر بْن عَلِيّ سَنَة خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، مَاتَ الْأَب فِي شَهْر رَبِيع الْآخَر، وَمَاتَ الِابْن فِي شَعْبَان تِلْكَ السَّنَة.قَالَ الْقَاضِي: قَدْ اِتَّفَقَ الْحُفَّاظ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ الصَّوَاب (عَلِيّ بْن نَصْر) دُون عَكْسه، مَعَ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْهُمَا إِلَّا أَنْ لَا يَكُون لِنَصْرِ بْن عَلِيّ سَمَاع مِنْ وَهْب بْن جَرِير، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَب مُسْلِم؛ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِالْمُعَاصَرَةِ وَإِمْكَان اللِّقَاء.قَالَ: فَفِي نَفيهمْ لِرِوَايَةِ النُّسَخ الَّتِي فيها نَصْر بْن عَلِيّ نَظَر. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَاَلَّذِي قَالَهُ الْحُفَّاظ هُوَ الصَّوَاب، وَهُمْ أَعْرَف بِمَا اِنْتَقَدُوهُ، وَلَا يَلْزَم مِنْ سَمَاع الِابْن مِنْ وَهْب سَمَاع الْأَب مِنْهُ، وَلَا يُقَال: يُمْكِن الْجَمْع، فَكِتَاب مُسْلِم وَقَعَ عَلَى وَجْه وَاحِد، فَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْأَكْثَرُونَ هُوَ الْمُعْتَمَد لاسيما وَقَدْ صَوَّبَهُ الْحُفَّاظ..باب تَحْرِيمِ الْهَجْرِ فَوْقَ ثَلاَثٍ بِلاَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ: 4643- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُر أَخَاهُ فَوْق ثَلَاث لَيَالٍ» قَالَ الْعُلَمَاء: فِي هَذَا الْحَدِيث تَحْرِيم الْهَجْر بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَكْثَر مِنْ ثَلَاث لَيَالٍ، وَإِبَاحَتهَا فِي الثَّلَاث الْأُوَل بِنَصِّ الْحَدِيث، وَالثَّانِي بِمَفْهُومِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاث لِأَنَّ الْآدَمِيّ مَجْبُول عَلَى الْغَضَب وَسُوء الْخُلُق وَنَحْو ذَلِكَ؛ فَعُفِيَ عَنْ الْهِجْرَة فِي الثَّلَاثَة لِيَذْهَب ذَلِكَ الْعَارِض.وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيث لَا يَقْتَضِي إِبَاحَة الْهِجْرَة فِي الثَّلَاثَة، وَهَذَا عَلَى مَذْهَب مَنْ يَقُول: لَا يُحْتَجّ بِالْمَفْهُومِ وَدَلِيل الْخِطَاب.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ» قَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول: الْكُفَّار غَيْر مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرْع، وَالْأَصَحّ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْبَل خِطَاب الشَّرْع، وَيَنْتَفِع بِهِ.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِض هَذَا، وَيُعْرِض هَذَا» وَفِي رِوَايَة: «فَيَصُدّ هَذَا وَيَصُدّ هَذَا» هُوَ بِضَمِّ الصَّاد، وَمَعْنَى (يَصُدّ) يُعْرِض، أَيْ يُوَلِّيه عُرْضه بِضَمِّ الْعَيْن، وَهُوَ جَانِبه، وَالصَّدّ بِضَمِّ الصَّاد، وَهُوَ أَيْضًا الْجَانِب وَالنَّاحِيَة.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَخَيْرهمَا الَّذِي يَبْدَأ بِالسَّلَامِ» أَيْ هُوَ أَفْضَلهمَا، وَفيه دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَمَنْ وَافَقَهُمَا أَنَّ السَّلَام يَقْطَع الْهِجْرَة، وَيَرْفَع الْإِثْم فيها، وَيُزِيلهُ، وَقَالَ أَحْمَد وَابْن الْقَاسِم الْمَالِكِيّ: إِنْ كَانَ يُؤْذِيه لَمْ يَقْطَع السَّلَام هِجْرَته.قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ عِنْد غَيْبَته عَنْهُ هَلْ يَزُول إِثْم الْهِجْرَة؟ وَفيه وَجْهَانِ: أَحَدهمَا لَا يَزُول لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمهُ، وَأَصَحّهمَا يَزُول لِزَوَالِ الْوَحْشَة. وَاَللَّه أَعْلَم.4644- سبق شرحه بالباب.4645- سبق شرحه بالباب..باب تَحْرِيمِ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسِ وَالتَّنَافُسِ وَالتَّنَاجُشِ وَنَحْوِهَا: 4646- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ؛ فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث» الْمُرَاد النَّهْي عَنْ ظَنِّ السُّوء.قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ تَحْقِيق الظَّنّ وَتَصْدِيقه دُون مَا يَهْجِس فِي النَّفْس؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْلَك. وَمُرَاد الْخَطَّابِيِّ أَنَّ الْمُحَرَّم مِنْ الظَّنّ مَا يَسْتَمِرّ صَاحِبه عَلَيْهِ، وَيَسْتَقِرّ فِي قَلْبه، دُون مَا يَعْرِض فِي الْقَلْب، وَلَا يَسْتَقِرّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُكَلَّف بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيث: «تَجَاوَزَ اللَّه تَعَالَى عَمَّا تَحَدَّثَتْ بِهِ الْأُمَّة مَا لَمْ تَتَكَلَّم أَوْ تَعْمِد» وَسَبَقَ تَأْوِيله عَلَى الْخَوَاطِر الَّتِي لَا تَسْتَقِرّ- وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ سُفْيَان أَنَّهُ قَالَ: الظَّنّ الَّذِي يَأْثَم بِهِ هُوَ مَا ظَنَّهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّم لَمْ يَأْثَم.قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد الْحُكْم فِي الشَّرْع بِظَنٍّ مُجَرَّد مِنْ غَيْر بِنَاء عَلَى أَصْل وَلَا نَظَر وَاسْتِدْلَال، وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل، وَالصَّوَاب الْأَوَّل.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا» الْأَوَّل بِالْحَاءِ، وَالثَّانِي الْجِيم.قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: (التَّحَسُّس) بِالْحَاءِ الِاسْتِمَاع لِحَدِيثِ الْقَوْم، وَالْجِيم الْبَحْث عَنْ الْعَوْرَات.وَقِيلَ: بِالْجِيمِ التَّفْتِيش عَنْ بَوَاطِن الْأُمُور، وَأَكْثَر مَا يُقَال فِي الشَّرّ، وَالْجَاسُوس صَاحِب سِرّ الشَّرّ، وَالنَّامُوس صَاحِب سِرّ الْخَيْر.وَقِيلَ: بِالْجِيمِ أَنْ تَطْلُبهُ لِغَيْرِك، وَبِالْحَاءِ أَنْ تَطْلُبهُ لِنَفْسِك.قَالَهُ ثَعْلَب: وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى. وَهُوَ طَلَب مَعْرِفَة الْأَخْبَار الْغَائِبَة وَالْأَحْوَال.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا» قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَسَد تَمَنِّي زَوَال النِّعْمَة، وَأَمَّا الْمُنَافَسَة وَالتَّنَافُس فَمَعْنَاهُمَا الرَّغْبَة فِي الشَّيْء، وَفِي الِانْفِرَاد بِهِ، وَنَافَسْته مُنَافَسَة إِذَا رَغِبْت فِيمَا رَغِبَ.وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيث التَّبَارِي فِي الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابهَا وَحُظُوظهَا.4647- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَهْجُرُوا» كَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ وَفِي بَعْضهَا: «تَهَاجَرُوا»، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَاد النَّهْي عَنْ الْهِجْرَة وَمُقَاطَعَة الْكَلَام.وَقِيلَ: يَجُوز أَنْ يَكُون: «لَا تَهْجُرُوا» أَيْ لَا تَتَكَلَّمُوا بِالْهَجْرِ بِضَمِّ الْهَاء، وَهُوَ الْكَلَام الْقَبِيح.«وَأَمَّا النَّهْي عَنْ الْبَيْع عَلَى بَيْع أَخِيهِ» وَالنَّجْش فَسَبَقَ بَيَانهمَا فِي كِتَاب الْبُيُوع.وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالتَّنَاجُشِ هُنَا ذَمُّ بَعْضهمْ بَعْضًا، وَالصَّحِيح أَنَّهُ التَّنَاجُش الْمَذْكُور فِي الْبَيْع وَهُوَ أَنْ يَزِيد فِي السِّلْعَة، وَلَا رَغْبَة لَهُ فِي شِرَائِهَا، بَلْ لِيَغُرّ غَيْره فِي شِرَائِهَا.4648- سبق شرحه بالباب.4649- سبق شرحه بالباب..باب تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ وَخَذْلِهِ وَاحْتِقَارِهِ وَدَمِهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ: 4650- قَوْله: (عَامِر بْن كُرَيْز) بِضَمِّ الْكَاف.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِم أَخُو الْمُسْلِم لَا يَظْلِمهُ وَلَا يَخْذُلهُ وَلَا يَحْقِرهُ» أَمَّا كَوْن الْمُسْلِم أَخَا الْمُسْلِم فَسَبَقَ شَرْحه قَرِيبًا، وَأَمَّا: «لَا يَخْذُلهُ» فَقَالَ الْعُلَمَاء: الْخَذْل تَرْك الْإِعَانَة وَالنَّصْر، وَمَعْنَاهُ إِذَا اِسْتَعَانَ بِهِ فِي دَفْع ظَالِم وَنَحْوه لَزِمَهُ إِعَانَته إِذَا أَمْكَنَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر شَرْعِيّ. «وَلَا يَحْقِرُهُ» هُوَ بِالْقَافِ وَالْحَاء الْمُهْمَلَة أَيْ لَا يَحْتَقِرهُ، فَلَا يُنْكِر عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَصْغِرهُ وَيَسْتَقِلّهُ.قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ: «لَا يَخْفِرُهُ» بِضَمِّ الْيَاء وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْفَاء أَيْ لَا يَغْدِر بِعَهْدِهِ، وَلَا يَنْقُض أَمَانَه.قَالَ: وَالصَّوَاب الْمَعْرُوف هُوَ الْأَوَّل، وَهُوَ الْمَوْجُود فِي غَيْر كِتَاب مُسْلِم بِغَيْرِ خِلَاف، وَرُوِيَ: «لَا يَحْتَقِرهُ»، وَهَذَا يَرُدّ الرِّوَايَة الثَّانِيَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِير إِلَى صَدْره ثَلَاث مِرَار» وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ اللَّه لَا يَنْظُر إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُر إِلَى قُلُوبكُمْ» مَعْنَى الرِّوَايَة الْأُولَى أَنَّ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة لَا يَحْصُل بِهَا التَّقْوَى، وَإِنَّمَا تَحْصُل بِمَا يَقَع فِي الْقَلْب مِنْ عَظَمَة اللَّه تَعَالَى وَخَشْيَته وَمُرَاقَبَته. وَمَعْنَى نَظَر اللَّه هُنَا مُجَازَاته وَمُحَاسَبَته أَيْ إِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ عَلَى مَا فِي الْقَلْب دُون الصُّوَر الظَّاهِرَة. وَنَظَرُ اللَّه رُؤْيَته مُحِيط بِكُلِّ شَيْء. وَمَقْصُود الْحَدِيث أَنَّ الِاعْتِبَار فِي هَذَا كُلّه بِالْقَلْبِ، وَهُوَ مِنْ نَحْو قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغَة» الْحَدِيث.قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْض النَّاس بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْعَقْل فِي الْقَلْب لَا فِي الرَّأْس، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مَبْسُوطَة فِي حَدِيث: «أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغَة».4651- قَوْله: (جَعْفَر بْن بُرْقَان) هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَإِسْكَان الرَّاء.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُفْتَح أَبْوَاب الْجَنَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس.. الْحَدِيث» قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْبَاجِيّ: مَعْنَى (فَتْحهَا) كَثْرَة الصَّفْح وَالْغُفْرَان وَرَفْع الْمَنَازِل، وَإِعْطَاء الثَّوَاب الْجَزِيل.قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ فَتْح أَبْوَابهَا عَلَامَة لِذَلِكَ.و: «أَنْظِرُوا هَذَيْنِ» بِقَطْعِ الْهَمْزَة أَخِّرُوهُمَا حَتَّى يَفِيئَا أَيْ يَرْجِعَا إِلَى الصُّلْح وَالْمَوَدَّة..باب النَّهْيِ عَنِ الشَّحْنَاءِ وَالتَّهَاجُرِ: 4653- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُرْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» هُوَ بِالرَّاءِ السَّاكِنَة وَضَمِّ الْكَاف وَالْهَمْزَة فِي أَوَّله هَمْزَة وَصْل أَيْ أَخِّرُوا، يُقَال: رَكَاهُ يَرْكُوهُ رَكْوًا إِذَا أَخَّرَهُ.قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: وَيَجُوز أَنْ يَرْوِيه بِقَطْعِ الْهَمْزَة الْمَفْتُوحَة، مِنْ قَوْلهمْ: أَرْكَيْت الْأَمْر إِذَا أَخَّرْته. وَذَكَرَ غَيْره أَنَّهُ بِقَطْعِهَا وَوَصْلهَا. وَالشَّحْنَاء الْعَدَاوَة كَأَنَّهُ شُحِنَ بُغْضًا لَهُ لِمُلَائِهِ.4654- سبق شرحه بالباب..باب فِي فَضْلِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ: 4655- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْم أُظِلّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْم لَا ظِلّ إِلَّا ظِلِّي» فيه دَلِيل لِجَوَازِ قَوْل الْإِنْسَان. اللَّه يَقُول، وَهُوَ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَاب الْإِيمَان عَنْ بَعْض السَّلَف مِنْ كَرَاهَة ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُقَال: يَقُول اللَّه، بَلْ يُقَال: قَالَ اللَّه، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ جَاءَ بِجَوَازِهِ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّه يَقُول الْحَقّ} وَأَحَادِيث صَحِيحَة كَثِيرَة. قَوْله تَعَالَى: «الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي» أَيْ بِعَظَمَتِي وَطَاعَتِي لَا لِلدُّنْيَا.وَقَوْله تَعَالَى: «يَوْم لَا ظِلّ إِلَّا ظِلِّي» أَيْ أَنَّهُ لَا يَكُون مَنْ لَهُ ظِلّ مَجَازًا كَمَا فِي الدُّنْيَا. وَجَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم: ظِلّ عَرْشِي قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِره أَنَّهُ فِي ظِلّه مِنْ الْحَرّ وَالشَّمْس، وَوَهَج الْمَوْقِف وَأَنْفَاس الْخَلْق.قَالَ: وَهَذَا قَوْل الْأَكْثَرِينَ.وَقَالَ عِيسَى بْن دِينَار: وَمَعْنَاهُ كَفّه عَنْ الْمَكَارِه، وَإِكْرَامه، وَجَعْلُهُ فِي كَنَفه وَسِتْره، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: السُّلْطَان ظِلّ اللَّه فِي الْأَرْض.وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ الظِّلّ هُنَا عِبَارَة عَنْ الرَّاحَة وَالنَّعِيم، يُقَال: هُوَ فِي عَيْش ظَلِيل أَيْ طَيِّب.4656- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَرْصَدَ اللَّه عَلَى مَدْرَجَته مَلَكًا» مَعْنَى (أَرْصَدَهُ) أَقْعَدَهُ يَرْقُبهُ. و(الْمَدْرَجَة) بِفَتْحِ الْمِيم وَالرَّاء هِيَ الطَّرِيق، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاس يَدْرُجُونَ عَلَيْهَا، أَيْ يَمْضُونَ وَيَمْشُونَ.قَوْله: «لَك عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَة تَرُبُّهَا» أَيْ تَقُوم بِإِصْلَاحِهَا، وَتَنْهَض إِلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.قَوْله: «بِأَنَّ اللَّه قَدْ أَحَبَّك كَمَا أَحْبَبْته فيه» قَالَ الْعُلَمَاء: مَحَبَّة اللَّه عَبْده هِيَ رَحْمَته لَهُ، وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَإِرَادَته لَهُ الْخَيْر، وَأَنْ يَفْعَل بِهِ فِعْل الْمُحِبّ مِنْ الْخَيْر. وَأَصْل الْمَحَبَّة فِي حَقِّ الْعِبَاد مَيْل الْقَلْب، وَاَللَّه تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ. فِي هَذَا الْحَدِيث فَضْل الْمَحَبَّة فِي اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهَا سَبَب لِحُبِّ اللَّه تَعَالَى الْعَبْد، وَفيه فَضِيلَة زِيَارَة الصَّالِحِينَ وَالْأَصْحَاب، وَفيه أَنَّ الْآدَمِيِّينَ قَدْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَة..باب فَضْلِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ: 4657- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَائِد الْمَرِيض فِي مَخْرَفَة الْجَنَّة» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «خُرْفَة الْجَنَّة» بِضَمِّ الْخَاء وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى فَضْل عِيَادَة الْمَرِيض، وَسَبَقَ شَرْح ذَلِكَ وَاضِحًا فِي بَابه.قَوْله فِي أَسَانِيد هَذَا الْحَدِيث: (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاء) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ الْأَشْعَث عَنْ أَبِي أَسْمَاء) قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلْت الْبُخَارِيّ عَنْ إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ: أَحَادِيث أَبِي قِلَابَةَ كُلّهَا عَنْ أَبِي أَسْمَاء لَيْسَ بَيْنهمَا أَبُو الْأَشْعَث إِلَّا هَذَا الْحَدِيث.4658- سبق شرحه بالباب.4659- سبق شرحه بالباب.4660- «قِيلَ: يَا رَسُول اللَّه، مَا خُرْفَة الْجَنَّة؟ قَالَ: جَنَاهَا» أَيْ يَئُولُ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْجَنَّة وَاجْتِنَاء ثِمَارهَا.4661- قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: «مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ: يَا رَبّ كَيْف أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَّا عَلِمْت أَنَّك لَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْده؟» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا أَضَافَ الْمَرَض إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَالْمُرَاد الْعَبْد تَشْرِيفًا لِلْعَبْدِ وَتَقْرِيبًا لَهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى: «وَجَدْتنِي عِنْده» أَيْ وَجَدْت ثَوَابِي وَكَرَامَتِي، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي تَمَام الْحَدِيث: «لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي، لَوْ أَسْقَيْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي» أَيْ ثَوَابه. وَاَللَّه أَعْلَم..باب ثَوَابِ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا: 4662- قَوْلهَا: «مَا رَأَيْت رَجُلًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَع مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَالَ الْعُلَمَاء: الْوَجَع هُنَا الْمَرَض، وَالْعَرَب تُسَمِّي كُلّ مَرَض وَجَعًا.4663- قَوْله: «إِنَّك لَتُوعَك وَعْكًا شَدِيدًا» الْوَعْك بِإِسْكَانِ الْعَيْن قِيلَ: هُوَ الْحُمَّى، وَقِيلَ: أَلَمُهَا وَمَغَثُهَا.وَقَدْ وَعَكَ الرَّجُل يُوعَك فَهُوَ مَوْعُوك.قَوْله: (يَحْيَى بْن عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي غَنِيَّة) هُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالنُّون.4664- قَوْله: (إِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ لِلَّذِينَ ضَحِكُوا مِمَّنْ عَثَرَ بِطُنْبِ فُسْطَاط: لَا تَضْحَكُوا) فيه النَّهْي عَنْ الضَّحِك مِنْ مِثْل هَذَا إِلَّا أَنْ يَحْصُل غَلَبَة لَا يُمْكِن دَفْعه، وَأَمَّا تَعَمُّده فَمَذْمُوم؛ لِأَنَّ فيه إِشْمَاتًا بِالْمُسْلِمِ وَكَسْرًا لِقَلْبِهِ.و: (الطُّنْب) بِضَمِّ النُّون وَإِسْكَانهَا هُوَ الْحَبْل الَّذِي يُشَدّ بِهِ الْفُسْطَاط، وَهُوَ الْخِبَاء وَنَحْوه. وَيُقَال فُسْتَاط بِالتَّاءِ بَدَل الطَّاء، وَفُسَّاط بِحَذْفِهَا مَعَ تَشْدِيد السِّين، وَالْفَاء مَضْمُومَة وَمَكْسُورَة فيهنَّ، فَصَارَتْ سِتّ لُغَات.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِم يُشَاك شَوْكَة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَة، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة» وَفِي بَعْض النُّسَخ: «وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا» وَفِي رِوَايَة (إِلَّا كَتَبَ اللَّه بِهَا حَسَنَة، أَوْ حُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة) فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث بِشَارَة عَظِيمَة لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَنْفَكّ الْوَاحِد مِنْهُمْ سَاعَة مِنْ شَيْء مِنْ هَذِهِ الْأُمُور. وَفيه تَكْفِير الْخَطَايَا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَام وَمَصَائِب الدُّنْيَا وَهُمُومهَا، إِنْ قَلَّتْ مَشَقَّتُهَا. وَفيه رَفْع الدَّرَجَات بِهَذِهِ الْأُمُور، وَزِيَادَة الْحَسَنَات، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهَا تُكَفِّر الْخَطَايَا فَقَطْ، وَلَا تَرْفَع دَرَجَة، وَلَا تُكْتَب حَسَنَة.قَالَ: وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ: الْوَجَع لَا يُكْتَب بِهِ أَجْر، لَكِنْ تُكَفَّر بِهِ الْخَطَايَا فَقَطْ، وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَحَادِيث الَّتِي فيها تَكْفِير الْخَطَايَا، وَلَمْ تَبْلُغهُ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم الْمُصَرِّحَة بِرَفْعِ الدَّرَجَات، وَكَتْب الْحَسَنَات.قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي كَوْن الْأَنْبِيَاء أَشَدَّ بَلَاء ثُمَّ الْأَمْثَل فَالْأَمْثَل أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِكَمَالِ الصَّبْر، وَصِحَّة الِاحْتِسَاب، وَمَعْرِفَة أَنَّ ذَلِكَ نِعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى لِيَتِمّ لَهُمْ الْخَيْر، وَيُضَاعَف لَهُمْ الْأَجْر، وَيَظْهَر صَبْرهمْ وَرِضَاهُمْ.4665- سبق شرحه بالباب.4666- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصِيب الْمُؤْمِن مِنْ شَوْكَة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا قَصَّ اللَّه بِهَا مِنْ خَطِيئَة» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: (قَصَّ)، وَفِي بَعْضهَا: (نَقَصَ) وَكِلَاهُمَا صَحِيح مُتَقَارِب الْمَعْنَى.4667- سبق شرحه بالباب.4668- سبق شرحه بالباب.4669- سبق شرحه بالباب.4670- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيب الْمُؤْمِن مِنْ وَصَب وَلَا نَصَب، وَلَا سَقَم وَلَا حَزَن، حَتَّى الْهَمّ يُهِمّهُ، إِلَّا كَفَّرَ اللَّه بِهِ مِنْ سَيِّئَاته» (الْوَصَب) الْوَجَع اللَّازِم، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُمْ عَذَاب وَاصِب} أَيْ لَازِم ثَابِت. و(النَّصَب) التَّعَب، وَقَدْ نَصِبَ يَنْصَب نَصَبًا كَفَرِحَ يَفْرَح فَرَحًا. وَنَصَبَهُ غَيَّرَهُ وَأَنْصَبَهُ لُغَتَانِ. و(السُّقْم) بِضَمِّ السِّين وَإِسْكَان الْقَاف وَفَتْحهمَا لُغَتَانِ، وَكَذَلِكَ الْحُزْن وَالْحَزَن فيه اللُّغَتَانِ. و(يُهَمّهُ) قَالَ الْقَاضِي: هُوَ بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الْهَاء عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله، وَضَبَطَهُ غَيْره (يَهُمّهُ) بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمِّ الْهَاء أَيْ يَغُمّهُ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.4671- قَوْله: (عَنْ اِبْن مُحَيْصِن شَيْخ مِنْ قُرَيْش قَالَ مُسْلِم: هُوَ عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَيْصِن) وَهَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم نُسَخ بِلَادنَا: أَنَّ مُسْلِمًا.قَالَ: هُوَ عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَن. وَفِي بَعْضهَا هُو: (عَبْد الرَّحْمَن)، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْض الرُّوَاة، وَهُوَ غَلَط، وَالصَّوَاب الْأَوَّل. وَمُحَيْصِن بِالنُّونِ فِي آخِره. وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ الْمَغَارِبَة بِحَذْفِهَا، وَهُوَ تَصْحِيف.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَارِبُوا» أَيْ اِقْتَصِدُوا فَلَا تَغْلُوا وَلَا تُقَصِّرُوا، بَلْ تَوَسَّطُوا: «وَسَدِّدُوا» أَيْ اِقْصِدُوا السَّدَاد وَهُوَ الصَّوَاب.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى النُّكْبَة يَنْكُبهَا» وَهِيَ مِثْل الْعَثْرَة يَعْثُرهَا بِرِجْلِهِ، وَرُبَّمَا جُرِحَتْ أُصْبُعه، وَأَصْل النَّكْب الْكَبّ وَالْقَلْب.4672- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَك يَا أُمّ السَّائِب تُزَفْزِفِينَ» بِزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ وَفَاءَيْنِ وَالتَّاء مَضْمُومَة قَالَ الْقَاضِي: تُضَمّ وَتُفْتَح، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور فِي ضَبْط هَذِهِ اللَّفْظَة. وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّهَا رِوَايَة جَمِيع رَوَاهُ مُسْلِم، وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ بِلَادنَا بِالرَّاءِ وَالْفَاء، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ فِي غَيْر مُسْلِم بِالرَّاءِ وَالْقَاف، مَعْنَاهُ تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَة شَدِيدَة أَيْ تَرْعَدِينَ.4673- حَدِيث الْمَرْأَة الَّتِي كَانَتْ تُصْرَع وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الصَّرْع يُثَاب عَلَيْهِ أَكْمَلَ ثَوَاب..باب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ: 4674- قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي} قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ تَقَدَّسْت عَنْهُ وَتَعَالَيْت، وَالظُّلْم مُسْتَحِيل فِي حَقِّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى. كَيْف يُجَاوِز سُبْحَانه حَدًّا وَلَيْسَ فَوْقه مَنْ يُطِيعهُ؟ وَكَيْف يَتَصَرَّف فِي غَيْر مُلْك، وَالْعَالَم كُلّه فِي مُلْكه وَسُلْطَانه؟ وَأَصْل التَّحْرِيم فِي اللُّغَة الْمَنْع، فَسَمَّى تَقَدُّسه عَنْ الظُّلْم تَحْرِيمًا لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمَمْنُوعِ فِي أَصْل عَدَم الشَّيْء.قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا} هُوَ بِفَتْحِ التَّاء أَيْ لَا تَتَظَالَمُوا، وَالْمُرَاد لَا يَظْلِم بَعْضكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا تَوْكِيد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا عِبَادِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا} وَزِيَادَة تَغْلِيظ فِي تَحْرِيمه.قَوْله تَعَالَى: {كُلّكُمْ ضَالّ إِلَّا مَنْ هَدَيْته} قَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِر هَذَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى الضَّلَال إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّه تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيث الْمَشْهُور: «كُلّ مَوْلُود يُولَد عَلَى الْفِطْرَة» قَالَ: فَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأَوَّلِ وَصْفهمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل مَبْعَث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا وَمَا فِي طِبَاعهمْ مِنْ إِيثَار الشَّهَوَات وَالرَّاحَة وَإِهْمَال النَّظَر لَضَلُّوا. وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَر. وَفِي هَذَا دَلِيل لِمَذْهَبِ أَصْحَابنَا وَسَائِر أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْمُهْتَدِي هُوَ مَنْ هَدَاهُ اللَّه، وَبِهُدَى اللَّه اِهْتَدَى، وَبِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ هِدَايَة بَعْض عِبَاده وَهُمْ الْمُهْتَدُونَ، وَلَمْ يُرِدْ هِدَايَة الْآخَرِينَ، وَلَوْ أَرَادَهَا لَاهْتَدَوْا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلهمْ الْفَاسِد: أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَرَادَ هِدَايَة الْجَمِيع. جَلَّ اللَّه أَنْ يُرِيد مَا لَا يَقَع، أَوْ يَقَع مَا لَا يُرِيد.قَوْله تَعَالَى: {مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُص الْمِخْيَط إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر} الْمِخْيَط بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْيَاء هُوَ الْإِبْرَة: قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا تَقْرِيب إِلَى الْأَفْهَام، وَمَعْنَاهُ لَا يَنْقُص شَيْئًا أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «لَا يَغِيضهَا نَفَقَة» أَيْ لَا يَنْقُصهَا نَفَقَة؛ لِأَنَّ مَا عِنْد اللَّه لَا يَدْخُلهُ نَقْص، وَإِنَّمَا يَدْخُل النَّقْص الْمَحْدُود الْفَانِي، وَعَطَاء اللَّه تَعَالَى مِنْ رَحْمَته وَكَرَمه، وَهُمَا صِفَتَانِ قَدِيمَتَانِ لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِمَا نَقْص، فَضَرَبَ الْمَثَل بِالْمِخْيَطِ فِي الْبَحْر، لِأَنَّهُ غَايَة مَا يُضْرَب بِهِ الْمَثَل فِي الْقِلَّة، وَالْمَقْصُود التَّقْرِيب إِلَى الْإِفْهَام بِمَا شَاهَدُوهُ؛ فَإِنَّ الْبَحْر مِنْ أَعْظَم الْمَرْئِيَّات عَيَانًا، وَأَكْبَرهَا، وَالْإِبْرَة مِنْ أَصْغَر الْمَوْجُودَات، مَعَ أَنَّهَا صَقِيلَة لَا يَتَعَلَّق بِهَا مَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله تَعَالَى: «يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار» الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: «تُخْطِئُونَ» بِضَمِّ التَّاء، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا وَفَتْح الطَّاء، يُقَال: خَطِئَ يَخْطَأ إِذَا فَعَلَ مَا يَأَثَمَ بِهِ فَهُوَ خَاطِئ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} وَيُقَال فِي الْإِثْم أَيْضًا: أَخْطَأَ، فَهُمَا صَحِيحَانِ.4675- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِتَّقُوا الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره فَيَكُون ظُلُمَات عَلَى صَاحِبه لَا يَهْتَدِي يَوْم الْقِيَامَة سَبِيلًا حَتَّى يَسْعَى نُور الْمُؤْمِنِينَ بَيْن أَيْدِيهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ. وَيَحْتَمِل أَنَّ الظُّلُمَات هُنَا الشَّدَائِد، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَات الْبِرّ وَالْبَحْر} أَيْ شَدَائِدهمَا. وَيَحْتَمِل أَنَّهَا عِبَارَة عَنْ الْأَنْكَال وَالْعُقُوبَات.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاتَّقُوا الشُّحّ فَإِنَّ الشُّحّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنَّ هَذَا الْهَلَاك هُوَ الْهَلَاك الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهُمْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ هَلَاك الْآخِرَة، وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَر. وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.قَالَ جَمَاعَة: الشُّحّ أَشَدّ الْبُخْل، وَأَبْلَغ فِي الْمَنْع مِنْ الْبُخْل.وَقِيلَ: هُوَ الْبُخْل مَعَ الْحِرْص.وَقِيلَ: الْبُخْل فِي أَفْرَاد الْأُمُور، وَالشُّحّ عَامّ.وَقِيلَ: الْبُخْل فِي أَفْرَاد الْأُمُور، وَالشُّحّ بِالْمَالِ وَالْمَعْرُوف وَقِيلَ: الشُّحّ الْحِرْص عَلَى مَا لَيْسَ عِنْده، وَالْبُخْل بِمَا عِنْده.4676- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِتَّقُوا الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره فَيَكُون ظُلُمَات عَلَى صَاحِبه لَا يَهْتَدِي يَوْم الْقِيَامَة سَبِيلًا حَتَّى يَسْعَى نُور الْمُؤْمِنِينَ بَيْن أَيْدِيهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ. وَيَحْتَمِل أَنَّ الظُّلُمَات هُنَا الشَّدَائِد، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَات الْبِرّ وَالْبَحْر} أَيْ شَدَائِدهمَا. وَيَحْتَمِل أَنَّهَا عِبَارَة عَنْ الْأَنْكَال وَالْعُقُوبَات.4677- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللَّه فِي حَاجَته» أَيْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا، وَلَطَفَ بِهِ فيها.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَة فَرَّجَ اللَّه عَنْهُ بِهَا كُرْبَة مِنْ كُرَب يَوْم الْقِيَامَة، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة» فِي هَذَا فَضْل إِعَانَة الْمُسْلِم، وَتَفْرِيج الْكُرَب عَنْهُ، وَسَتْر زَلَّاته. وَيَدْخُل فِي كَشْف الْكُرْبَة وَتَفْرِيجهَا مَنْ أَزَالَهَا بِمَالِهِ أَوْ جَاهِهِ أَوْ مُسَاعَدَته، وَالظَّاهِر أَنَّهُ يَدْخُل فيه مَنْ أَزَالَهَا بِإِشَارَاتِهِ وَرَأْيه وَدَلَالَته.وَأَمَّا السَّتْر الْمَنْدُوب إِلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَاد بِهِ السَّتْر عَلَى ذَوِي الْهَيْئَات وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَاد. فَأَمَّا الْمَعْرُوف بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبّ أَلَّا يُسْتَر عَلَيْهِ، بَلْ تُرْفَع قَضِيَّته إِلَى وَلِيّ الْأَمْر إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَة؛ لِأَنَّ السَّتْر عَلَى هَذَا يُطْمِعهُ فِي الْإِيذَاء وَالْفَسَاد، وَانْتَهَاك الْحُرُمَات، وَجَسَارَة غَيْره عَلَى مِثْل فِعْله. هَذَا كُلّه فِي سَتْر مَعْصِيَة وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ، وَأَمَّا مَعْصِيَة رَآهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ بَعْد مُتَلَبِّس بِهَا، فَتَجِب الْمُبَادَرَة بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ، وَمَنْعه مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَحِلّ تَأْخِيرهَا فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعهَا إِلَى وَلِيّ الْأَمْر إِذَا لَمْ تَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَة.وَأَمَّا جُرْح الرُّوَاة وَالشُّهُود وَالْأُمَنَاء عَلَى الصَّدَقَات وَالْأَوْقَاف وَالْأَيْتَام وَنَحْوهمْ فَيَجِب جُرْحهمْ عِنْد الْحَاجَة، وَلَا يَحِلّ السَّتْر عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَح فِي أَهْلِيَّتهمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَة الْمُحَرَّمَة، بَلْ مِنْ النَّصِيحَة الْوَاجِبَة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.قَالَ الْعُلَمَاء فِي الْقِسْم الْأَوَّل الَّذِي يُسْتَر فيه: هَذَا السَّتْر مَنْدُوب، فَلَوْ رَفَعَهُ إِلَى السُّلْطَان وَنَحْوه لَمْ يَأْثَم بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ هَذَا خِلَاف الْأَوْلَى، وَقَدْ يَكُون فِي بَعْض صُوَره مَا هُوَ مَكْرُوه. وَاَللَّه أَعْلَم.4678- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُفْلِس مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاةٍ وَصِيَام وَزَكَاة وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا إِلَى آخِره» مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَقِيقَة الْمُفْلِس، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَال، وَمَنْ قَلَّ مَاله، فَالنَّاس يُسَمُّونَهُ مُفْلِسًا، وَلَيْسَ هُوَ حَقِيقَة الْمُفْلِس؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْر يَزُول، وَيَنْقَطِع بِمَوْتِهِ، وَرُبَّمَا يَنْقَطِع بِيَسَارٍ يَحْصُل لَهُ بَعْد ذَلِكَ فِي حَيَاته، وَإِنَّمَا حَقِيقَة الْمُفْلِس هَذَا الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث فَهُوَ الْهَالِك الْهَلَاك التَّامّ، وَالْمَعْدُوم الْإِعْدَام الْمُقَطَّع، فَتُؤْخَذ حَسَنَاته لِغُرَمَائِهِ، فَإِذَا فَرَغَتْ حَسَنَاته أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتهمْ، فَوُضِعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّار فَتَمَّتْ خَسَارَته وَهَلَاكه وَإِفْلَاسه.قَالَ الْمَازِرِيُّ وَزَعَمَ بَعْض الْمُبْتَدِعَة أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مُعَارِض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى} وَهَذَا الِاعْتِرَاض غَلَط مِنْهُ وَجَهَالَة بَيِّنَة؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْره وَظُلْمه، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوق لِغُرَمَائِهِ، فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاته، فَلَمَّا فَرَغَتْ وَبَقِيَتْ بَقِيَّة قُوبِلَتْ عَلَى حَسَب مَا اِقْتَضَتْهُ حِكْمَة اللَّه تَعَالَى فِي خَلْقه، وَعَدْله فِي عِبَاده، فَأُخِذَ قَدْرهَا مِنْ سَيِّئَات خُصُومه، فَوُضِعَ عَلَيْهِ، فَعُوقِبَ بِهِ فِي النَّار. فَحَقِيقَة الْعُقُوبَة إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ ظُلْمه، وَلَمْ يُعَاقَب بِغَيْرِ جِنَايَة وَظُلْم مِنْهُ، وَهَذَا كُلّه مَذْهَب أَهْل السُّنَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.4679- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوق إِلَى أَهْلهَا يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُقَاد لِلشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنْ الشَّاة الْقَرْنَاء» هَذَا تَصْرِيح بِحَشْرِ الْبَهَائِم يَوْم الْقِيَامَة، وَإِعَادَتهَا يَوْم الْقِيَامَة كَمَا يُعَاد أَهْل التَّكْلِيف مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَكَمَا يُعَاد الْأَطْفَال وَالْمَجَانِين وَمَنْ لَمْ تَبْلُغهُ دَعْوَة، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِل الْقُرْآن وَالسُّنَّة.قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا الْوُحُوش حُشِرَتْ} وَإِذَا وَرَدَ لَفْظ الشَّرْع، وَلَمْ يَمْنَع مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِره عَقْل وَلَا شَرْع وَجَبَ حَمْله عَلَى ظَاهِره.قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَيْسَ مِنْ شَرْط الْحَشْر وَالْإِعَادَة فِي الْقِيَامَة الْمُجَازَاة وَالْعِقَاب وَالثَّوَاب، وَأَمَّا الْقِصَاص مِنْ الْقَرْنَاء لِلْجَلْحَاءِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِصَاص التَّكْلِيف؛ إِذْ لَا تَكْلِيف عَلَيْهَا، بَلْ هُوَ قِصَاص مُقَابَلَة. وَالْجَلْحَاء بِالْمَدِّ هِيَ الْجَمَّاء الَّتِي لَا قَرْن لَهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.4680- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتهُ» مَعْنَى (يُمْلِي) يُمْهِل وَيُؤَخِّر، وَيُطِيل لَهُ فِي الْمُدَّة، وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْمُلْوَة، وَهِيَ الْمُدَّة وَالزَّمَان، بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا. وَمَعْنَى (لَمْ يُفْلِتهُ) لَمْ يُطْلِقهُ، وَلَمْ يَنْفَلِت مِنْهُ.قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: أَفْلَتَهُ أَطْلَقَهُ، وَانْفَلَتَ مِنْهُ.
|